الصفحات

السبت، 30 أغسطس 2014

سر الأب الصامت

بقلم :إيمان القدوسى

لعلك مثلى قابلته في بيت أحد المقربين، يجلس معتزًا بهامته البيضاء وملامحه الساكنة صامتًا تاركًا للحاجة زوجته تصريف شئون الحياة، ولعلك تعجبت من بؤس حال الملك المخلوع وقوة سطوة الملكة الأم والتفاف الأبناء حولها. 

لا تتسرع في الحكم فالسيدة ليست متسلطة تمامًا والرجل ليس بريئًا بالمرة، لو رجع بهما الزمان لنقطة البداية لشاهدت فتاة طيبة تبدأ حياتها بالبشر والرغبة في أن تنضوي تحت جناح فارسها المغوار الذي يقف بجوارها واثقًا مزهوًا، ولكن مرت الحياة بما لا تشتهي النفس.

لقد فعلت الزوجة الطيبة كل ما في وسعها لإنجاح الزواج ونفذت كل النصائح والتوصيات التي تعرفها وبالغت أحيانًا إلى حد التضحية وفعل ما هو فوق الواجب كل ذلك أنهكها وجعلها تنتظر المكافأة العادلة من الفارس الهمام، وبينما كانت مستغرقة في إعداد الطعام الذي يحبه وتربية الصغار وتعليمهم وترتيب ملابسه بعناية في الدواليب وأوراقه الهامة في الأدراج والركض الدائم هنا وهناك جاءتها المفاجأة!

فقد أراد الباشا بدء مرحلة جديدة في حياته بقراره المنفرد وبفضل ما وفرته له زوجته من مال وطاقة، وكانت الطامة الكبرى في حياتها، فقد اكتشفت حقيقة الوضع الآن فقط، عرفت أنها ظلت دائمًا محلك سر بل وتراجعت أحيانًا للخلف در، بينما صار هو باشا حقيقي وجاهة وشياكة واكتمال منتصف العمر أيضًا لديه الوفرة والطاقة، والحقيقة لو كنّا منصفين ووقفت هي بجواره اليوم لثقلت موازينه عنها في كل شيء، لقد صار أكثر علمًا وخبرة وأوسع في خبراته الاجتماعية بل إنه يبدو أكثر شبابًا ووسامة ورشاقة، ثم إنها تأكدت أن ما عاشت فيه من وهم أنهما روح واحدة في جسدين ليس أكثر من لغو تردده الأغاني وفي الحقيقة لكل روح جسدها المستقل وقرارها المنفرد.

وهاهو يغرد وحده بعيدًا عن السرب ويبدأ مشروعه الخاص جدًا، تفيق الزوجة لنفسها وتظهر مخالبها وقدراتها الخفية كلها في تلك المرحلة، وبعد معاناة يستقر الوضع غالبًا على عودة الفارس منكسرًا لعشه القديم بعد دخوله في مغامرة عاطفية أو اقتصادية فاشلة ولا جدوي منها، وبعد عودته يفاجأ باختلال ميزان القوي داخل البيت وصعوبة استعادة الوضع الأول.

وهذا هو سر الأب الصامت والأم المتحكمة والتي استطاعت عاطفيًا ونفسيًا استقطاب الأولاد والناس حولها وصارت هي التي تمسك صولجان البيت، ولكنها لا تبدو سعيدة بالمرة بل تعلوها مسحة إحباط وتفلت منها تعبيرات المرارة وتقع أسيرة الرثاء للذات والندم على التضحية.

لن نفعل من أجلها الكثير فهي لن تتقبل عزاءنا، ولكن سنتخذ موقفها عبرة للزوجات الصغيرات يستخلصن دروسًا مؤكدة، يقول الدرس الأول أن كل إنسان مسئول عن نفسه ولذلك فأنت وحدك المسئولة عن تنمية قدراتك وتوسيع اهتماماتك وتأكيد علاقاتك الاجتماعية وتأمين وضعك الاقتصادي أنت أيضًا المسئولة عن الحفاظ على رشاقتك وحسن مظهرك.

أما الدرس الأعمق والأهم فهو أن تلك الزوجة الطيبة لم تحب زوجها حقًا رغم ما بدا منه ومنها، لقد أحبت نفسها وأرادت منه دائمًا أن يقوم بدور الزوج والأب ورجل الأسرة في حدود ما رسمته له وتوقعته منه، وكانت دائمًا تلزمه بتلك التوقعات التي أداها هو دون أن تستطيع النفاذ لداخل نفسه ولذلك عندما تهيأت له الفرصة لتحقيق ذاته بعيدًا اندفع ليعيش الحياة كما يراها هو وكما لم تراها زوجته المستغرقة في اهتماماتها أبدًا.

المعني الحقيقي للحب أن ترى الطرف الآخر وتقبله بعيوبه قبل مميزاته وأن تستطيع النفاذ لقلبه المختلف والمستفز دون محاولة للترويض وتنجح في إيجاد خط اتصال بينكما تسيرا فيه معًا ووقتها لن تكون هناك مفاجآت ولن ينقطع خط الكلام ويصبح الأب صورة صامتة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق